والتعاون، فلم تعد الخرائط السياسية والحدود الطبيعية والتضاريس والبحار قادرة على منع الناس من التواصل و التفاعل عبر المحيطات و القارات، و ذلك بعد ثورة التبادل المعلوماتي الحرالذي يشهده العصر الحديث . إن رغبة الإنسان الأزلية، هي البحث عن الحقيقة، والتي لا يمكن الوصول إليها وإدراكها إلا من خلال "المعلومات" التي أصبح من السهل اليوم جمعها وربطها وإسترجاعها وتحليلها وبثها، فلقد مرت البشرية بقفزات وتحولات لم تقف حواجز المكان والجغرافيا بعد اليوم قادرة على تحدي نزعة الإنسان التواقة إلى الحرية والإنفتاح والتشاركتاريخية تغيرت فيها موازين النفوذ والقوة والثروة من عصر التدوين إلى عصر الورق و الطباعة، إلى عصر البث الإذاعي المسموع ثم المرئي، إلى عصر النشرالإلكتروني ، حتى وصلنا اليوم إلى عصرالمعلومات الذي تقاس فيه مكانة الأمم والشعوب من خلال مقدار ما تنتجه وتبثه وتستهلكه من معلومات، وما تمتلكه من مؤسسات وأدوات لإستخدام المعلومات التي تُعد المورد الوحيد غير الناضب.
إن قصة التطور التاريخي البشري، هي قصة تطور عملية الإتصال، التي يمكن تقسيمها إلى خمس مراحل هي: الكلام، والكتابة، والطباعة، والإذاعة(المسموعة والمرئية) وأخيراً شبكة المعلومات العالمية "الإنترنيت"، و هنا بدأت ملامح عصر الإتصال الإلكتروني، والتي من أبرز سماته إنفجار المعرفة وطوفان المعلومات.
أما في العراق الذي شهد في العقد الأخير من السنين أحداثاً جسيمة لعل أبرزها كان، إطاحة قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بنظام "صدام حسين" في التاسع من نيسان 2003 ، و ما تلى ذلك من حراك سياسي وإقتصادي وإجتماعي فاعل إتخذ في كثير من الأحيان طابعا عنيفاً و دموياً، وكان لابد أن يعبرعن نفسه بشكل أو بآخر عبر وسائل الترويج و الدعاية و الإعلام لجميع الأحزاب و المنظمات والجهات الفاعلة في المشهد العراقي .
لقد كان النظام قبل سقوطه بسنين قليلة، قد سمح بإستخدام شبكة "الإنترنت" في العراق لبعض المؤسسات الحكومية ، وللمواطنين على نطاق ضيق جداً مع تعليمات و رقابة أمنية صارمة و عقوبات شديدة لمن يخرق هذه التعليمات .
وصفت مراسلة ال BBC الإذاعة البريطانية كيفية إستخدام "الإنترنت" في العراق تحت حكم النظام السابق في تقرير لها نشر في العام 2002 ، قالت :" من أول الأشياء التي يتعلمها الزائر الأجنبي الى العراق و عندما يدخل مركزا للإنترنت في بغداد، هو أنه لا يستطيع إستعمال بريده الإلكتروني، لإنه ممنوع الدخول إلى مواقع الخدمات البريدية على الإنترنت مثل "هوتميل" في تلك المراكز".
وتوجه شاشات الكومبيوتر في تلك المراكز نحو الجهة البعيدة عن الحائط، حيث يقوم مسؤولون حكوميون من دائرة الإنترنت بالرقابة والمشي ذهابا وإيابا.
ويذعر المسؤول إذا وجد شخص متلبساً يحاول دخول هذه المواقع، ويعمد إلى غلق جهاز الكومبيوتر فوراً ".
إنفتح المجتع العراقي في عهد ما بعد صدام ، على العالم الخارجي عبر وسائل الإعلام المختلفة فقد عمد العهد الجديد الى تبني الإنفتاح و الشفافية في تبادل المعلومات و حق الجمهور في الوصول اليها، كسياسة و مبادئ عمل ثابتة بما ينسجم مع مفاهيم الديمقراطية التي إلتزم بها أمام المجتمع الدولي ، مما دفع أعداد متزايدة من العراقيين للدخول الى شبكة الإنترنت و تصفح مواقعها ، و إزدياد أعداد المواقع العراقية الإلكترونية على الشبكة العالمية خاصة تلك التي تُعنى بالجانب الأعلامي و الصحفي .
إن التعريف بشكل موجز للأحداث السياسية التي جرت في العراق قبل الإطاحة بنظام صدام و ما بعده ، من جهة ، و التعريف بتاريخ النشاط الصحفي للعراقيين في داخل البلاد و خارجها ، من جهة أخرى ، يسّر خلفية مهمة للتعرف على واقع المواقع الصحفية الإلكترونية العراقية على شبكة "الإنترنت" اليوم ، وتقييم أداءها والتعرف على إتجاهاتها و ميولها و تأثيرها المتبادل في الواقع السياسي و الإجتماعي في العراق الجديد ، وهذا ما أهتمت به الدراسة.
فضلا عن تقديم الدراسة شرحاً وافياً عن شبكة "الإنترنت" منذ ظهورها و إنتشارها و طبيعة إستخداماتها، مع التركيز على إستخدامها لأغراض النشر الصحفي .
ثم إستخدام شبكة "الإنترنت" في العراق وسعة هذا الإستخدام، في عهد النظام السابق و ما بعده .
لقد اقبل المواطن العراقي على التعامل مع شبكة "الإنترنت" وإستخدمها للإطلاع على أخبار بلاده و التطورات الجارية في العملية السياسية والأوضاع الأمنية المتقلبة ، فإكتسبت المواقع الصحفية على الشبكة أهمية خاصة كمصدر مهم المتلقي العراقي .
و بموازاة هذا الإهتمام المتزايد من قبل العراقيين بشبكة الإنترنت ، أقدم منتجوا الأخبار و العاملين في الإنتاج الإعلامي والناشطين سياسيا، الى تأسيس العشرات من المواقع الصحفية الإلكترونية على الشبكة وهم يتسابقون اليوم للإستحواذ على سوق إعلام " الأنترنيت " في العراق و كسب المتلقي العراقي تبعاً لمصالحهم وغاياتهم و أجنداتهم .
قدمت الدراسة كشف تفصيلي لعدد المواقع الصحفية العراقية على شبكة الإنترنت وعرضت خطابها الإعلامي و السياسي و موقفها من الأحداث الجارية على الساحة السياسية العراقية و قيّمت ذلك الخطاب عبر بيان مواقفها وتعاملها مع الأحداث وطريقة معالجتها ، وحللت مضامين و دلالات التسميات و الألفاظ و المصطلحات المتداولة في الأخبار والتقارير المنشورة على تلك المواقع .
ان ما دعى الباحث لإختيارموضوع هذه الدراسة ، هو الفقر الواضح والبيّن في البحوث حول المواقع الصحفية العراقية الإلكترونية على شبكة "الإنترنت" في المكتبة العراقية والعربية.
كما أن الأعداد المتزايدة للمتصفحين العراقيين للمواقع الإلكترونية الصحفية العراقية على شبكة الإنترنت، في خضم العملية السياسية الجارية ، أصبح محط أهتمام كل القوى الفاعلة في العمل السياسي و الإعلامي في العراق الجديد ، اذ ان تبني الديمقراطية كنهج لإدارة الحكم في العراق الجديد إستوجب إيلاء أهمية قصوى للرأي العام و كسب أصوات الجمهور وهدف مثل هذا يتطلب بالقطع نشاطاً اعلامياً واسعاً و بارزاً ، يحتل النشر الصحفي على شبكة "الإنترنت" مكاناً مميزاً فيه .
تنوعت إتجاهات التحرير الصحفي في الصحف و المجلات في عراق العهد الجديد ، فظهرت صحف خبرية وصحف الرأي وصحف "الإنترنيت" التي تستقي كل مادتها الإخبارية والثقافية من الشبكة المعلوماتية، وظهرت صحف تعيش في الماضي بإجترار الذكريات الصحفية والسياسية في القرن العشرين، مع ظهور صحف شبابية وأخرى هزلية وصحف فضائح سياسية وصحف الإعلانات. وكان صدورالكثيرمن الصحف متذبذباً، بحيث توقفت الكثير من الصحف عن الصدور بعد فترة زمنية قصيرة . وركزت بعض الصحف على الخدمات البلدية والكهربائية والنفطية والإتصالاتية والمالية التي تقدمها الحكومة للشعب بالنقد ومتابعة آخرالآخبار، وهناك صحف أخرى دخلت في معركة جدل الهويات، وفي مدى أحقية ومظلومية كل حزب أو طائفة أو قومية وطلب التعويض على حساب الفئات الأخرى، وماتبع ذلك من تعدد الولاءات بتعدد الهويات الطائفية والقومية والحزبية. مع التعدد والتنوع الكبيرين في الصحافة ما بعد سقوط نظام صدام ، فإن هناك بالمقابل وجه آخر للعمل الصحفي في العراق في العهد الجديد تمثل في التهديدات والتحديات التي واجهها العاملون في هذا الميدان، مما جعل ممارسة العمل الصحفي في العراق من أخطر الأعمال على حياة العاملين .
إذ لم يشهد العالم بأسره وعلى الرغم من كل الحروب والكوارث التي عصفت بالعديد من الدول ما شهده العراق من استهداف للصحفيين ، يتمثل تارة بالإغتيالات التي تتم بسرعة وعن بعد, وتارة أخرى بالقتل الوحشي الذي ينفذ بعد نصب الكمائن وخطف الضحايا تحت تهديد السلاح. ومما يزيد من فرص الخطورة وتعقيد العمل الصحفي في العراق أيضا ما يتعرض اليه العاملون في الصحافة من ملاحقة وإعتقالات ومقاضاة بدعاوى كيدية وعلى نحو متواتر يثير القلق. الأمر الذي ينعكس سلباً بالتأكيد على حرية الرأي والتعبير وعلى إنسيابية حركة الاعلام والصحافة وبما يجعل حرية الصحافة في العراق تمضي صوب منزلق خطير. و تشير مصادر محايدة الى إن أكثر من 270 صحفياً وإعلامياً قد قُتلوا في العراق على مدى خمس سنوات منذ سقوط النظام السابق حتى العام 2008.
و من جانب آخر يعتبر العراق اليوم واحدًا من أفضل دول الشرق الأوسط والدول العربية في قوانينه الإعلامية التي أطلقت العنان للصحافيين في التعبيرعن آرائهم وإنشاء مؤسساتهم الإعلامية المقروءة والمسموعة والمرئية والتي كفل الدستور العراقي الجديد حريتها في التعبير.
أشارت الدراسة الى ظاهرة المدونون " البلوغرز " ومنافستهم للصحفيين في العمل الإعلامي ، فهناك أعداد متزايدة اليوم من هواة الكتابة والنشرعلى شبكة "الإنترنت" خاصة في المواقع التفاعلية . ومن المصادفات المثيرة أن أول من لفت الإنتباه الى ظاهرة "البلوغرز" على نطاق واسع عالمياً كان مهندساًعراقياً ، إبتدا نشر مدوناته على الإنترنت من بغداد مع بدء العمليات العسكرية للإطاحة بنظام صدام 2003 وما تلاها من أحداث .
تباينت المواقع الصحفية العراقية الإلكترونية بين موال للعملية السياسية الجارية بعد الإطاحة بالنظام السابق و بين رافض لها ، و عبّرت المواقع عن إنتماءاتها السياسية والطائفية والقومية بشكل واضح تبعاً للواقع السياسي و الإجتماعي القائم في عراق اليوم . إن الأعداد المتزايدة للمواقع الصحفية الألكترونية على الشبكة و إتجاهاتها و ميولها المختلفة و المتعارضة أحيانا ، قد تعبر عن حجم التشتت السياسي والديني والمذهبي والقومي الذي يعيشه العراق في ظل ظروف الفوضى التي شهدتها البلاد بعد الإطاحة بنظام الحكم المركزي الذي كان قائما في عهد صدام حسين ، لكن هذا الإختلاف و التباين من جانب آخر يعبرعن التعدد الواسع النطاق في أصل مكونات الشعب العراقي و تنوع ثقافاته و التي كانت على مر التاريخ مصدرغنى لثقافة الشعب عموما بدلا من أن تكون مصدر تفتت أو إحتراب خاصة عندما تتيسر ظروف إستقرارالأوضاع السياسية و قيام دولة قوية في البلاد .
بعد سقوط الدكتاتورية تحررت الصحافة العراقية من هيمنة الدولة لكنها سرعان ما وقعت في فخ الفوضى وباتت غالبيتها رهينة مواقف الأحزاب المختلفة فضلاً عن الشبهات التي تحوم حول مصادر تمويلها وما يتعرض له إعلاميون من قتل وتهديدات.
لقد عمد رافضوا العهد الجديد من أتباع النظام السابق و بعض قوى الإسلام السياسي المتشددة
الى إستخدام كل الوسائل الممكنة لتحقيق أهدافهم غيرالمشروعة ، ومنها الوسائل الإعلامية لدعم عملياتهم الإرهابية المعيقة للعملية السياسية السلمية الديمقراطية الجارية في البلاد، ولعل الكثير من الصحف و وسائل الإعلام الأخرى التي تثيرالفوضى وتشجع على إعاقة العملية السياسية الجارية في البلاد تتلقى تمويلا من جهات داخلية أو خارجية خفية و غيرشرعية، لا يسّرها إقامة العراق الجديد و لأسباب سياسية باتت معروفة .إن مصادر تمويل الصحف و وسائل الإعلام العراقية الجديدة تتصل بمدى إستقلاليتها وأخلاقياتها و مدى إلتزامها بالمهنية و من ثم بما يتعلق بتنمية و تطوير صناعة إعلام مستقل في البلاد ، و الذي يؤمل له أن يكون العلامة الأبرز والأهم في الحياة الديمقراطية في العراق الجديد.
إن إقامة صناعة إعلامية وطنية متطورة في العراق يسهم فيها القطاع الخاص بشكل مباشر و حيوي مع منظومة قوانين ضامنة و حامية ، سينتج عنها تحقيق عوائد مالية كبيرة للبلاد ، وستسهم بالتالي في تعزيز الديمقراطية و تنشيط العمل الإعلامي ذاته ، فضلاً عن الرخاء الذي سيتمتع به العاملين في هذا القطاع مما يعززإستقلاليتهم وعدم حاجتهم الى تمويل من مصادر مجهولة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ahmad_alsaleh58@yahoo.com
Friday, December 25, 2009
Subscribe to:
Posts (Atom)